· 

بين التمسك بالاوطان والهروب منها... لا للحرب


رغم كل ما يحدث من انحدار في الاوضاع عامةً ، فإنني ما زلت أؤمن بلبنان الوطن !  لأنني مؤمن من الاساس أن الانسان هو الوطن وهو من يصنع المكان ويكسبه بهجته وهو من يحّول الأرض العاقر إلى أرض معطاء، وهو من يجعل من فكرة بسيطة هدفاً وطموحاً تضرب بجذورها في الأرض وتنبت الأمل وتثمر ! وسوف أظل أؤمن أن مشيئة الله لنا أن نولد في هذا المكان من العالم دون سواه ،  والتواجد في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة من الكرة الارضية هو لسبب ! طبعاً لا شيئ يحصل الا لسبب ! والسؤال هل من دورٍ وراء وجودنا في هذا المكان لن يقوم به أحد بدلاً عنا ؟ وهل إذا تركنا مكاننا فارغاً فلن يملأه أحدٌ لأنه يملك مكاناً يحتاجه أكثر ؟ وهل الجذور التي تربطنا بهذا الوطن هي أكبر من الانتماء الجغرافي ؟ وهل هي أقرب للارتباط الروحي؟ لبنان وطنٌ يشعرني كأنني انبثقت منه وانبثق مني، قد لا يشعر غالبية اللبنانيين بهذا الشعور القوي بالانتماء كونهم لم يعيشوا يوماً تجربة فقدان وطنهم …ولم يشعروا يوماً أنهم على وشك خسارته، وأنهم سوف يصبحون بلا انتماء، بلا اسم ينسبون إليه، بلا أرض يعودون إليها، بلا وجوه ينظرون إليها ليدركوا وقتها معنى الوطن .


من جهتي أنا أرى لبنان جميلاً في حنينِ كل مغترب وفي لوعة كل مشتاق اليه وفي هذا المزيج المختلط بين الحنين والشوق ! كما أرى لبنان جميلاً في هذا الشعور المرتبك الذي أعيشه وأنا عائدٌ إليه في كل مرة ، ليس لانه الوطن الذي ولدت فيه بل لانه المكان الوحيد في العالم الذي أنتمي إليه اسماً وفكراً وجسداً ، هو تماماً مثل أمي التي أنجبتني ولم تقصّر يوماً في حنانها على أخوتي وتقديمها لهم كل ما لديها  ، بالهجرة ارى وكأن الوطن أختار أن يدلل بعض أبنائه مقابل قسوته عليهم ، هم الذين فكروا في هجره وهجروه وبنوا لهم حياة جديدة في المهجر ، لكن ارتباطهم بالوطن لم ولن ينقطع لأنهم يحملون اسمه ودمه يجري في عروقهم. ومن جهتي اتفهم هجرتهم ، فقد يضطر شبابنا لترك هذا الوطن مؤقتاً  لأن مشروعهم يمر عبر بوابة المطار …. ولأن أحلامهم إذا بقيت هنا سوف تموت لأن علة وجودها غير قائمة . في المقابل لا أحبذ نظرة بعضهم الى لبنان كمكان للعطلة الصيفية فقط ، ويؤسفني أن بعضهم غادر لأنه فَكر فقط في خلاص نفسه قائلاً : "أنا وبعدي الطوفان " ورغم أن خراب الوطن والعبث بالامن المالي والاجتماعي يعود لفشل بعض حكام المال والسياسة في بناء هذا الوطن وجهلهم التام أن الانسان هو الوطن، أنا ، أنت ، هي ، هو  ونحن الوطن، بصمتنا التي نتركها فيه ، التغيير الذي نساهم فيه، الأحلام التي نحارب من اجل ان تبصر النور ….صدقوني هي كل ما يحتاجه الوطن! 


وكثيراً ما كان الحديث عن لبنان موضوع سجال بيني وبين نفسي، ليتحول فيما بعد الى موضع سجال بيني وبين الآخرين، وتستفزني بشدة بعض التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تنخر الوطن ، هي المُعبرُ عنها صراحة وتلميحاً بأن : "الوطن حيث أجد كرامتي"، "الوطن حيثما أكسب قوت يومي"، "الوطن حيث العدل"، "الوطن حيث الصدق"، "أرض الله واسعة كلها وطني"، "وطني الذي أختاره لا الذي اختير لي" "الهروب لمن استطاع" ، "هذا ليس وطنا إنها أرض للبيع " توجعني هذه الكلمات وتترك في نفسي غصة عميقة، خاصة انها تصدر عن نخبة ، عن أولئك الذين إذا فعلوا أجادوا فعلاً ، لكنهم للاسف جزموا مسبقاً أن الأرض "أرض بور"، عن أولئك الذين ولدوا من هذا التراب وسرعان ما أداروا ظهورهم ومشوا ! يوجعني الأمر حقاً، ليس فقط وأنا أنظر لأبناء هذا الوطن من حملة الشهادات الذين غادروا مؤقتا ًلبناء مستقبل يليق بهم ،أو أولئك الباحثين عن لقمة العيش وغيرهم كثيرين من الذين سقطوا سهواً من ذاكرة حكام هذا الوطن بعد أن تاجروا بمستقبلهم وجعلوهم يحملون هَم الرزق لا هَم السعي له، ولست هنا لادعو الى تقديس الاوطان وتمجيدها، فالإنسان كالفراشة حيثما ثمة زهر فهو له، لكن أتمنى لو أننا لا نقسو على لبنان أكثر كما فعل حكامه به ! وحبذا لو أننا نحاول معاً أن نجعله مكاناً أفضل لنعيش فيه بكرامة نحن والاجيال القادمة ايضاً !

نقولا ابو فيصل ✍️

Write a comment

Comments: 0