· 

كلمة سفير الاتحاد الأوروبي رالف طراف بمناسبة يوم أوروبا

يسرني ويشرفني أن أرحب بكم في حفل يوم أوروبا لهذه السنة. شكراً لكم جميعاً على مشاركة هذه اللحظات الثمينة معنا. إنه يوم أوروبا الأول الذي أستضيفه منذ تعييني سفيراً للاتحاد الأوروبي في لبنان قبل نحو أربعة أعوام. لقد كانت سنوات صعبة. فقد عشنا معاً الثورة وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية. ومن المبكر جداً القول إن لبنان خرج من منطقة الخطر. ولكن الخيارات أوضح وهي موضع نقاش لإيجاد وسيلة للخروج من الأزمات المتعددة التي يواجهها لبنان.

 

أيها الحفل الكريم،

نحتفل اليوم بالذكرى السنوية لإعلان شومان التاريخي الذي مهد الطريق لإنشاء الاتحاد الأوروبي.

ويحل يوم أوروبا هذه السنة في أوقات صعبة.

أوقات صعبة بالنسبة إلى أوروبا، حيث تستمر الحرب الروسية على أوكرانيا في التسبُّب في موت الكثيرين ومعاناتهم، وفي هزِّ الأسس التي بُني عليها السلام في أوروبا بعد حربين عالميتين.

ولكن أبعد من هذه الحرب أيضاً، تكافح أوروبا لإيجاد مكانتها المناسبة في عالم سريع التطور، حيث يتم التشكيك في الثوابت والعادات، من حيث الأمن، والشراكات السياسية، والاقتصاد العالمي، والتحولات المجتمعية، والتغيير المناخي.

 

كما أنّ الأوقات صعبة بالنسبة إلى لبنان، حيث تدفع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والمالية العديد من اللبنانيين إلى الفقر أو المنفى، وسط عجز في تنفيذ الإصلاحات والفراغ السياسي الذي دخل الآن شهره السابع.

خلال السنوات الأربع التي عملت فيها في هذا البلد الجميل، شاركت في العديد من النقاشات والمبادرات لمعالجة التحديات المتعددة التي يواجهها لبنان.

وقد انصبَّ تركيزنا بشكل أساسي على ثلاث جبهات:

 

أولاً، ضرورة استعادة قدرة لبنان على وجه السرعة على اتخاذ القرارات السياسية والإدارية وتنفيذها. وثمة فهم مشترك على أنَّ ذلك يتطلَّب على الأقل انتخاب رئيس، وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، والتوصّل إلى اتفاقات بشأن تعيين مسؤولين كبار آخرين. علاوةً على ذلك، من الضروري دفع أجور مناسبة للعاملين في القطاع العام، بما في ذلك القوى الأمنية، وضمان عملها ووقف هجرة الأدمغة. ويريد البعض الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويطالب بمراجعة شاملة للنظام السياسي ككل. لكن هذا نقاش يجب أن يجريه اللبنانيون في ما بينهم في المقام الأول.

 

ثانياً، نتفق جميعاً على ضرورة أن يجد لبنان حلاً للأزمة الاقتصادية كأولوية. ومن شأن الإصلاحات النقدية والمالية أن تعيد السيولة الضرورية جداً إلى الاقتصاد، وأن توقف الانزلاق إلى اقتصاد غير نظامي، وأن تعيد بناء النظام المصرفي المتأزم. ومن شأن تنفيذ التدابير المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي منذ أكثر من عام أن يفتح الطريق أمام برنامج للتعافي الاقتصادي، بمساعدة من الصندوق والأسرة الدولية، بما في ذلك أوروبا.

وتكتسب الرؤية الاقتصادية الكلية للبلاد المقدار نفسه من الأهمية، رغم أنّها لا تحظى للأسف بنقاش بارز:

ما الذي ستكون عليه القاعدة الإنتاجية للاقتصاد اللبناني في المستقبل؟

كيف سيحصِّل اللبنانيون عيشهم في المستقبل؟

ما مستوى عدم المساواة المقبول في البلاد؟

أخيراً وليس آخراً، تأتي الإصلاحات المتعلقة بالحوكمة. فالإجراءات الشفَّافة في إدارة الشؤون العامة، مع خطوط واضحة للمسؤولية والمساءلة، والنظام المناسب للمشتريات العامة، وهيئات الرقابة القوية والمستقلة، بما في ذلك السلطة القضائية، وعدم التسامح مع الفساد، ليست سوى أمثلة قليلة على ما يتطلَّبه نظام محكم جيداً.

ويتعين أن تسير الإصلاحات الاقتصادية والمالية، والتوجه الاقتصادي الكلي، والإصلاحات المتصلة بالحوكمة جنباً إلى جنب.

ما من طرق مختصرة لهذا الأمر.

فالمهمة شاقة ولكنّها قابلة للتحقيق.

ما زال أصدقاء لبنان، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، على استعداد لدعم لبنان على هذا المسار.

 

ثالثاً، من الضروري أن يكوِّن اللبنانيون فهماً مشتركاً لكيفية التعامل مع وجود عدد كبير من اللاجئين السوريين في البلاد.

وقد تتفاجأون من أنّني أعتقد أنّه لدينا قواسم مشتركة في ما يتعلق بهذه المسألة أكثر مما يفرقنا. فرغم أنَّه لا يمكن مقارنة الأرقام بما يواجهه لبنان، ورغم أنَّ أوروبا مجهزة بشكل أفضل بكثير للتعامل مع التحديات، نخوض في أوروبا في نقاشات مشابهة جداً في شأن الهجرة ووجود اللاجئين كما هو الحال هنا.

وأعتقد أنّه من الإنصاف القول إنّنا جميعاً نتشارك الاعتقاد بأنّه لكل إنسان الحق في العيش بأمان وكرامة، والحق بالتمتُّع بحقوق الإنسان الأساسية على أكمل وجه. بالإضافة إلى ذلك، يشعر صانعو القرار الأوروبيون واللبنانيون بأنّهم ملزمون بالمبادئ الإنسانية العالمية والقانون الدولي. من ناحية أخرى، يشعر المواطنون اللبنانيون والأوروبيون كذلك بالقلق حيال التماسك الاجتماعي والاختلالات الاقتصادية عند فتح الأبواب أمام الوافدين بأعداد كبيرة.

يتعيّن على صانعي القرار في لبنان وأوروبا على السواء إيجاد توازن بين اهتمامات المواطنين والإنسانية، وبين الميل إلى الدقّة والاستعداد للبقاء منفتحين على العالم، وبين الانعزال والانفتاح. وهذا في جميع الظروف عمل توازن دقيق. وما من حلول سهلة ولا حلول سريعة لهذا الأمر، ويجب ألا نقع فريسة للديماغوجيين الذين يتظاهرون بخلاف ذلك.

تركَّز النقاش العام في لبنان في الآونة الأخيرة على وصف المشكلات والتحديات الناجمة عن وجود اللاجئين السوريين. وهذا أمر مفهوم بالتأكيد، بالنظر إلى العدد الكبير جداً من اللاجئين في لبنان. إلا إنّني أعتقد بأنَّ الوقت قد حان لكي يركَّز صانعو القرار على ما يمكن القيام به وتنفيذه، بعبارات ملموسة ومحددة، للتصدّي للتحديات المطروحة. إنّ سلامة وكرامة وأمن ورفاه جميع الناس في لبنان على المحك هنا.

 

يبقى الاتحاد الأوروبي مستعداً للدخول في حوار بنّاء بشأن جميع هذه القضايا، مع مراعاة الحدود التي يفرضها احترامنا لسيادة لبنان. ويعود للبنانيين أن يقرروا مصيرهم، وليس لنا أن نفرض حلولاً من الخارج.

 

أيها الحفل الكريم،

في هذه الأوقات العصيبة، تبقى أوروبا متضامنة مع لبنان، وتقدم الدعم للفئات الأكثر ضعفاً. ولكن التزامنا يتجاوز مجرد الدعم. فنحن ندرك الإمكانات الهائلة للبنان واللبنانيين، ونحن ملتزمون بمساعدة البلاد على تحرير هذه الإمكانات.

كما نعمل على تعزيز الحوكمة الرشيدة، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز استقلالية القضاء ودعم اللبنانيين في مكافحتهم للفساد. ونحن ندعم المؤسسات اللبنانية حتى تتمكَّن من تأمين السلع والخدمات الأساسية للسُّكان، لاسيما في قطاعات التعليم والصحة والمياه. كما نعمل بشكل خاص وبإخلاص حتى يتسنى لرأس المال البشري، وهو ثروة لبنان الأساسية، أن يساهم في نهوضه الاقتصادي.

في الوقت نفسه، ندرك أهمية التبادلات الثقافية التي تعزز الروابط بين بلداننا. فبفضل برامج مثل Erasmus+، نتيح للطلاب والباحثين اللبنانيين فرصة للدراسة والعمل في أوروبا، وللأوروبيين إمكان القدوم إلى لبنان لاكتشاف تاريخه وثقافته الغنية. إلى ذلك، ندعم الفعاليات والمبادرات الثقافية التي تعزز التعاون بين مجتمعاتنا.

بينما نحتفل اليوم بيوم أوروبا، نحتفل أيضاً بالروابط القوية التي توحّد لبنان وأوروبا. دعونا نلتزم بالعمل معاً، بدون أحكام مسبقة وبذهن منفتح، ونحاول أن نعالج يداً بيد بعض التحديات التي نواجهها.

 

أيها الحفل الكريم،

اسمحوا لي أن أغتنم هذه الفرصة لأشكر الفريق الرائع لبعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان وجميع الزملاء الآخرين العاملين لصالح الاتحاد الأوروبي في لبنان على العمل الاستثنائي الذي يقومون به في أوقات صعبة.

إنّ تفانيكم محطّ إعجاب، ورغبتكم في إحداث فارق أمر رائع.

ففي كل يوم عملت فيه في لبنان، شعرت بالطمأنينة والامتنان لكوني كنت محاطاً ومدعوماً من فريق بهذه الروعة. شكراً.