· 

طفلان من طرابلس .. من حمل السلاح إلى نشر السلام

طفلان يحملان سلاح
طفلان يحملان سلاح


جوان ملا - "جبل محسن" و"باب التبانة". منطقتان لبنانيتان تقعان في نطاق مدينة طرابلس الشمالية، شغلتا قنوات الأخبار والمواقع الإلكترونية لا سيّما بين عامي ٢٠١٢ و ٢٠١٤. فبعد اندلاع الحرب في سوريا وانقسام المواقف السياسية بين السوريين، هَيْمن تأثير هذا الانقسام على هاتين المنطقتين، والتي يتحكّم بهما صراع طائفي ليس وليد اليوم، بل هو قائم منذ عقود وسنوات. لكن الأزمة السورية أعادت هذا التباين إلى الواجهة ليتحوّل إلى نزاع مسلّح واشتباكات دامية بين أهالي الناحيتين: "جبل محسن" التي يعيش فيها سوريون وحاملون للجنسيتين السورية واللبنانية، و"باب التبانة" اللبنانية


توالت دورات العنف والاقتتال والتفجيرات بين الجهتين راح ضحيتها كثيرون. حتى أنّ الأطفال شاركوا، مع أهاليهم، في تلك المواجهات المسلّحة، ومن بينهم "ورد" من "جبل محسن" و"عمر" ابن "باب التبانة".


معرفة فمعركة 


كان "ورد" و"عمر" يعرفان بعضهما معرفة سطحية عابرة، فقد تشاركا مرّات عدّة في لعبة كرة القدم مع أصدقائهما. وصادف أن لعبا، في إحدى المرّات، في نفس الفريق. لكن في ٢٠١٢، ومع اشتداد الخلاف بين المنطقتين وتحوّله إلى صراع مسلّح، "انقلبت الدنيا" حسبما يقول "ورد"، الذي لم يعد يذكر شيئاً سوى أنّ تلك المنطقة الجارة التي يراها من أعلى تلّة "جبل محسن"، أصبحت عدوةً لهم وهدفاً للقذائف والرصاص. لا يعرف لماذا. كذلك الأمر بالنسبة لـ"عمر" الذي باتت تلك الجهة المقابلة، بالنسبة له، منطقة خطر ممنوع الاقتراب منها أو الذهاب إليها أو التعامل مع قاطنيها. والمسموح، فقط لا غير، ضربها بالحديد والنار.


حمل السلاح


"ورد" يتيم الأم والأب، ولا إخوة لديه. عاش مع خاله وأولاده. هو المحبّ للرسم، لم يكن لديه إلمام بأيّ صنعة ولم يتلقَّ أيّ تعليم، بل أتقن فنّ القسوة من أبناء خاله الذين يصفهم بـ "الطائشين ولا يعرفون مصلحتهم". كانوا يلقّنونه صيد الطيور بواسطة السلاح، وهو يمتثل لأوامرهم. لكن حين بدأت الاشتباكات، تحوّل "ورد" من صيد الطيور إلى ... صيد الناس. فقد كان يرافق أولاد خاله إلى "الجبهة" ويقف خلف المتاريس معهم أثناء الاشتباكات. وقد شجّعه ابن خاله الأكبر على حمل سلاح صغير واستخدامه. وفعلاً، يذكر "ورد" أنه حمل السلاح، ودفعه حماسه الطفولي كي يطلق النار بواسطته. لقد "فعلها" ظناً منه أنه يقوم بعمل بطولي، وحين أطلق النار، هلّل له ابن خاله قائلاً له: "لقد أصبحتَ رجلاً الآن!"


على المقلب الآخر من المدينة، كان "عمر" يخوض تجربة مماثلة وإن كانت بأسلوب مختلف. فوالده وأعمامه قد تورّطوا في الاشتباكات وكانوا يأخذونه معهم كي يشاهد ما يجري ويقاتل إلى جانبهم. يذكر "عمر" أنه كان يحمل مسدّساً صغير الحجم يسمّيه "فَرْد" يحتوي على رصاصة واحدة فقط. وكان أبوه ينبّهه ألّا يستعملها إلّا وقت الضرورة فقط، لكنه استعملها مرّةً من باب الفضول. لقد أطلقها في الهواء وكاد أن يصيب ابن عمه، فتلقّى لقاء فعلته هذه توبيخاً قاسياً.


لم تكن والدة "عمر" سعيدة بما يتعرّض له ابنها. كانت تحاول أن تثني والده عن أخذه معه إلى مكان الاشتباكات، لكن الوالد كان متمسّكاً بقراره، ويجيبها بأنه يريد أن يصبح ابنه رجلاً مثله، وأن يدرك ماذا يجري من حوله من أحداث، وما يحدِق به من أخطار.


صدمة نفسية


كانت جولات الاشتباكات تتوالى دون انقطاع بين المنطقتين، بل تزداد حدّةً وعنفاً، فتعلو أصوات التفجيرات المتنقّلة وترتفع أعداد الضحايا. لم يكن "ورد" و"عمر" يدركان حقيقة ما يجري. كل ما يعرفانه أنهما يشاهدان أهلهما يتقاتلون، يستهدفون بعضهم البعض من دون مبرّر أو منطق واضح. إلى أن حصل ما كان كفيلاً بقلب الموازين رأساً على عقب. 


لقد أصيب ابن خال "ورد" برصاصة في قدمه أجبرته على دخول المستشفى وهو في وضع خطير للغاية: كان من الممكن أن يفقد قدمه. أمّا والد "عمر"، فقد أصيب أيضاً بشظية قذيفة في رأسه دخل على إثرها في غيبوبة كانت السبب في إثارة هلع والدة "عمر" وبكائها ليل نهار.


خصّصت الأقدار لـ "ورد" و"عمر" مصيبتين بل مصيرين متشابهين: كلاهما حمل السلاح واستخدمه، كلاهما خاضا تجارب مريرة وشاهدا مآثر القتل بأمّ العين، وكلاهما قاربا الموت وعانا من خوف خسارة قريب... يتذكّر "ورد" و"عمر" أنهما بكيا كثيراً بعد ما تعرّض له ابن خال الأوّل ووالد الثاني. من إصابات خطيرة كادت توي بحياتهما. "لقد كانت لحظات عصيبة" يقول الاثنان، ويعترفان بأنهما تعبا نفسياً للغاية، ما جعلهما يتوقفان عن حمل السلاح أو عن ارتياد جبهات القتال، فقد نالت منهما صدمة نفسية مخيفة باتا على إثرها منطويَين على نفسيهما.


بعد الحرب


عام ٢٠١٤، شهدت منطقتا "جبل محسن" و"باب التبانة" هدنة لا تزال مستمرّة حتى يومنا الحالي، وذلك بعد أن مات من مات وأصيب من أصيب. لم يفقد ابن خال "ورد" القدرة على الحركة كما تخوّف الجميع، بل تعافى بعد ستة أشهر. ولم يمت والد "عمر"، بل استعاد عافيته بعد شهرين تقريباً. إلّا أنّ هاتين الإصابتين شعر بهما الصبيّان وكأنهما موت حقيقي دمّر نفسية الطفلين، عدا عن أنّ كل واحدة من هذه المآسي أثّرت، بشكل أو بآخر، على والد "عمر" وابن خال "ورد"، اللذين شعرا أنّ الموت كان على قاب قوسين منهما وأنهما قاتلا في سبيل اللا شيء.

هذا ما يؤكده "عمر" و"ورد" بعد سنوات من انتهاء تلك الحرب الضارية التي أشعلت المنطقتين وهدّدت استقرار وضع لبنان عموماً في تلك الفترة.


في عام ٢٠١٥، بادرت جمعيّات مدنية إلى التواصل مع الأهالي في المنطقتين، لا سيّما مع الأطفال الذين عانوا الأمرّين إذ شهدوا على أحداث مدمّرة عبثية قضت على براءتهم وحاضرهم وهدّدت سلامتهم ومستقبلهم ومصيرهم. كان "ورد" أحد المستفيدين من عمل إحدى تلك الجمعيّات. يقول إنه، ومن خلال نشاط مسرحي للأطفال، تعرّف على تلك الجمعيّة التي أنقذته من براثن اليأس حين كان عمره ثلاثة عشر عاماً تقريباً وذلك إثر اهتمام الأخصّائية النفسية في الجمعيّة بمعرفة تفاصيل التجارب التي تعرّض لها الأطفال في المنطقتين. 


نجحت الأخصائية النفسية بتقديم الدعم لـ"ورد" وبإقناع أبناء خاله بضرورة حضوره الأنشطة الفنية والمهنية التي تنظمها الجمعيّة بين الحين والآخر. شارك "ورد" في عدّة أنشطة فنية أقامتها الجمعيّة التي كان لديها فرع في مدينة طرابلس، ومن بين هذه النشاطات، الرسم الذي كان يحبه كثيراً. تحسّنت نفسية "ورد" بشكل واضح، وأصبح لديه أصدقاء في الجمعيّة، بعضهم من منطقته وآخرون من منطقة "باب التبانة" التي لطالما اعتبرهم "أعداء".


بعد سنة تقريباً من مثابرته على خوض مختلف النشاطات التي تنظمها الجمعيّة، اتجه، بإرشاد من الجمعيّة، إلى تعلّم الطبخ كتأهيل مهني. وجد في صنع الطعام شغفاً لديه لم يكن على دراية به. عمل، تحت إشراف الجمعيّة، في أحد المطاعم القريبة من منزله، وصار يحصل على المال الوفير بفضل عمله. يضحك "ورد" حين يتذكّر أنّ أولاد خاله أنفسهم كانوا يطلبون منه بعض النقود "كَدَيْن" لكنه لم يكن يعطيهم أيّ مال، ويقول لهم: "الرجّال هو اللي بيجيب المصاري بعرق جبينو".


وضع "عمر" كان مختلفاً. هو لم يستفد من تقديمات إحدى الجمعيّات. لقد كان مضطرّاً للعمل بشكل دائم مع أمه ومساعدتها بغية إعالة أسرته بعد أن تدهورت حالة والده الصحية. فقد كان الابن البكر وله شقيقتان صغيرتان، لذا لم يتوفّر لديه أيّ وقت للمشاركة في أنشطة فنية أو للاستفادة من تأهيل مهني. لكنه يقول إنه تعلّم درساً مهماً وقاسياً ممّا عاشه وشهده أثناء تلك المعارك.


ومن غرائب الصدف الجميلة أنّ "ورد" و"عمر" قد عملا في نفس المطعم من العام ٢٠١٧ وحتى العام ٢٠١٨. استفاد كلّ منهما من خبرة الآخر وتجربته، واستذكرا أيام كانا صديقين يلعبان كرة القدم، ثمّ اختفى كل منهما خلف متاريس عبثية، إلى أن أوصلتهما ظروف الحياة إلى ميدان العمل فأدركا أهمية تحقيق الذات والعيش مع الآخر بسلام وألفة.


اليوم، يعمل "ورد"، ابن العشرين عاماً، كـ "شيف" في أحد مطاعم طرابلس الشهيرة، وهو سعيد بالسلام النفسي و راحة البال اللذين بلغهما بعد عناء وتعب في فترة الحرب تلك. أمّا "عمر" فقد سافر في نهاية العام ٢٠٢٠ إلى تركيا بحثاً عن عمل أفضل هناك، يستطيع من خلاله إعالة أسرته بعد تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان، وحاملاً في قلبه مدينته الجريحة وكل تلك الذكريات التي، رغم سلبياتها، شكّلت له درساً، بل دروساً لم ولن ينساها.

Write a comment

Comments: 0