· 

مريم وأخواتها، قصة اغتصاب وقَصاص

تعبيرية
تعبيرية

تتعرّض لاجئات سوريات، كما نساء وفتيات لبنانيات، لمواقف حياتية صعبة لعلّ أبرزها التحرّش وتزويج القاصرات منهن والتعنيف الجسدي واللفظي... لكن أصعب ما قد تمرّ به امرأة أو فتاة هو الاغتصاب. فهو يسبّب لها ألماً نفسياً هائلاً، كيف إذا ما كان الجاني من أقرب المقرّبين لها؟

بعد النزوح

اشتعلت الحرب في سوريا، ولم يعد هناك من مجال لعائلة أبي محمد للبقاء في منزلها البسيط بريف دمشق. غادر الرجل البلاد مع زوجته وبناته الأربعة متوجّهاً إلى بيروت، وذلك لأنّ صديقه يعيش هناك وقد وعده بأن يؤمّن له عملاً. وفعلاً هذا ما حصل. أقامت العائلة النازحة في بيت صغير في أحدى ضواحي العاصمة اللبنانية إذ مكّنتهم أحوال الوالد المادية، على تواضعها، من تحمّل أعباء الإيجار الزهيد.

تتذكّر الابنة الكبرى مريم (اسم مستعار) جيّداً ظروف وصولها إلى لبنان. كانت قد بلغت السادسة عشرة من العمر، في حين كانت أخواتها الثلاث زينب وريم وسارة (وهي أيضاً أسماء مستعارة) أصغر منها سناً بسنوات قليلة. كانت تعمل مريم مع والدتها على تنظيف البيت ورعاية شقيقاتها، متحمّلةً المسؤولية رغم صغر سنّها.

ماذا عن والدك؟

تجيب مريم بأنّ "صديقه" لم يصدق بوعده، إذ لم يؤمّن له عملاً كما كان متوقعاً. بحث عن عمل دون جدوى. فقد كان كسولاً، عدا عن أنه نزق وجاف، وهو طبعٌ طالما نال من هناء العائلة وسلامة أفرادها، فلم تخلُ طفولة مريم من التعنيف الذي طال أيضاً أخواتها وأمها. لكن، في السابق، كان غيابه منذ الصباح حتى المساء، بداعي العمل، يخفف من وطأة هذا العنف المتكرّر عليهن.

تعترف مريم أنّ أمها لم تحب زوجها يوماً، فهي ارتبطت به بعمرٍ صغير، ولم ترَ منه أيّ معاملة حسنة. حتى أنه كان يعيّرها بأنها لم تنجب له ذكراً، ما جعلها تكرّر محاولات الحمل والولادة حتى تداعت صحّتها. وها هو النزوح يزيد من حدّة الخلافات داخل العائلة لأسباب كثيرة، فانتهت الأمور بين الزوجين إلى الطلاق.

بعد الطلاق

"لم أكن حزينة". هذا ما قالته مريم عن طلاق والديها. فقد اعتبرت أنّ أمها ربحت حياتها. ولكنها شعرت بأنّ الفراق أثّر عليها وعلى أخواتها رغم أنّ والدتها استأجرت منزلاً صغيراً في البناء المجاور تماماً لبنائهم، فكانت مريم تقضي وقتاً طويلاً عندها. لكن ما فاقم الأمور بعد وقت قصير، تبدّلت معاملة الأب لبناته بشكل مخيف. لقد تحوّل إلى وحش ضارٍ، وأخذ "يفشّ غلّه" بهن. يضرب زينب ويهين ريم وسارة، ويمنعهن من الخروج من المنزل حتى للذهاب إلى بيت والدتهن. وحدها مريم كانت تتمرّد، ولا تردّ عليه، لكنها تتعرّض للضرب المبرح وللتهديد بالطرد: "إن ذهبتِ لبيت والدتك بدون إذنٍ منّي، فلا عودة لك بعد اليوم". وهذا ما جعل مريم تخشى التردّد على منزل والدتها ولم تكن تخبرها بما يحصل معها ومع أخواتها من تعنيف وإهانات. تحمّلت ذلك من أجل أخواتها، فقد شعرت أنها المسؤولة عنهنّ بعد طلاق أمها.

لكن، في إحدى الليالي، حلّت الكارثة. شعرت مريم بأنّ والدها يتوجّه إلى غرفة أخواتها في حين كانت هي تنام على الأرض قرب باب المنزل. أوّل الأمر ظنّت أنّ الموضوع طبيعي، لكنه تكرّر لعدّة أيام. دفعها فضولها لاستطلاع ماذا يفعل والدها، لوقت طويل، في غرفة أخواتها. وإثر استراقها النظر، أدركت أنّ والدها يضاجع شقيقتها الأصغر منها بسنة وهي زينب، ما جعلها تصرخ حين شاهدت ذلك، فما كان من الأب إلّا أن هجم عليها وكاد يقتلها لو لم تبعده أخواتها عنها. لكنه هدّد ابنته أنه، وفي حال أخبرت أحداً، سيقتلها هي وأخواتها. وصار، حين يخرج من المنزل، يقفل عليهنّ الباب.

إلى أن جاء ذلك اليوم الذي عاد فيه والد مريم بصحبة صديق له. وفي نفس اليوم، وبدون أي سابق إنذار، زوّج مريم لصديقه وأخرجها من المنزل إلى بيت "زوجها"، وطبعاً لم يُسجَّل الزواج سوى "عند الشيخ".

لم تنسَ الصبية كميّة الدموع التي بكتها تلك الليلة حين تمّ تزويجها غصباً، الأمر الذي لم تستطع رفضه خوفاً من قتلها أو قتل أخواتها. أو هذا ما كانت تظنّه. لكنها أدركت لاحقاً أنّ هذا الزواج تمّ لإخراجها من المنزل مع رجل أقسى وأشرس من أبيها، كي لا تفضح سرّ هذا الأخير.

الخطوة الأولى

ما زرعته مريم في قلب أخواتها من تمرّد، ظهرت نتيجته بعد مدّة، من خلال خطوة خجولة قامت بها زينب بعد زواج مريم بسنة. كانت زينب وريم الأكثر تعرّضاً لانتهاك الجسد من قبل والدهما مقارنةً بسارة الصغيرة. وقد ظلتا على تلك الحالة فترة طويلة وهما لا تعرفان ماذا تفعلان خصوصاً بعد غياب مريم التام عن المنزل ومنعهما من زيارة والدتهما. وحتى إن زارتاها، فلم تكونا قادرتين على إخبار أمهما عن مأساتهما. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قرّر فيه والد مريم تزويج زينب جبراً أيضاً. وعندها، هربت البنت من المنزل وذهبت لإحدى الجمعيّات القريبة. لم تكن تعلم شيئاً عن هذه الجمعيّة. كانت فقط قد قرأت اللوحة المكتوبة في الخارج، فدخلت وقالت إنّ لديها مشكلة. وهنا، نالت الدعم النفسي وتحدّثت عمّا حصل معها للأخصّائية النفسية مذ بدأَ والدُها يتحرّش بها، فطلبت منها الأخصّائية أن تعود إلى الجمعيّة مرّة أخرى ليتمّ اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة.

لحظة الانفجار

لأوّل مرّة، سمح زوج مريم لها بالذهاب لرؤية أمها وأخواتها. كانت ابنة السابعة عشرة حبلى بابنها الأول. تقول مريم إنها ذهبت لبيت أهلها وعيناها تدمعان فرحاً وحزناً في آن. فهي لم ترَ أخواتها وأمها منذ ستة أشهر، ولم تتواصل معهنّ هاتفياً حتى، ولا تعرف ماذا يجري هناك، خصوصاً أنها سكنت في مكان بعيد نسبياً عن منزلي أخواتها وأمها. وحين وصلت مريم إلى منزل والدها، وجدت الباب مقفولاً – لقد أقفله والدها من الخارج - فيما أخواتها محتجزات في الداخل. لم تستطع رؤيتهن ولا هنّ استطعن رؤيتها. لكن الأخوات تحدّثن من خلف الباب وقد غصّ الحديث ببكائهن المتواصل. وحين علمت مريم أنّ زينب ستتزوج جبراً كما حصل معها، وأنها ستتعرّض مثلها للضرب والخوف والرعب، استدلّت على مكان الجمعيّة من أختها وذهبت إلى الأخصّائية النفسية وسردت لها الحكاية منذ بداية تحرّش والدها ببناته حتى تزويجهن القسري. أفصحت مريم عن كل ما تعرفه، وتحدّثت عن كل شيء باكيةً غاضبةً حانقة. ... اتخذت الجمعيّة الإجراءات المناسبة.

القَصاص

لم تعد مريم إلى بيت زوجها. راح يبحث عنها طويلاً لكن دونما فائدة. وحين ذهب لمنزل أبيها، عرف من والدها أنّ مريم جاءت إلى المكان لكن أخواتها لم يفتحنَ لها الباب بحكم أنه كان مقفلاً من الخارج. بات زوج مريم ليلته هناك منتظراً إياها كي تعود بعد أن ذهب لمنزل أمها ولم يجدها أيضاً. لم تتحدّث البنات عمّا دار من كلام بين مريم وبينهن من خلف الباب. وفي صباح اليوم التالي، صحا جميع أهل المنزل، الأب وزوج مريم والبنات الثلاثة، على مداهمة من قوى الأمن: لقد جاءت الشرطة وقبضت على أب مريم وزوجها، وأخذت البنات الثلاثة إلى مركز الجمعية.

بداية جديدة

تقول مريم إنه من الصعب عليها أن تستذكر كل ما جرى بالتفصيل، لكنها لا تنسى أنّ ما عاشته هي وأخواتها الثلاث كان مرعباً ومخيفاً. واعترفت أنها ندمت لأنها لم تلجأ، طوال هذه المدّة، لمن يحميها ويحمي أخواتها. وسألنا مريم: ما موقف والدتك من القصة؟ ولماذا هي غائبة عن كل هذا؟ أجابت أنّ والدتها كانت سعيدة بمجرّد خلاصها من زوجها. حتى أنها لم تعد تهتم ببناتها كما في السابق. وحين عرفت بالقصة التي انتشرت تفاصيلها في كل الحارة، غيّرت مكان سكنها فوراً ولم تخبر أحداً بمكان إقامتها الجديد. لقد شعرت بالعار والأذى اللذين ألحقتهما ببناتها كونها، هي الأخرى، لم تكن مهتمّة بهنّ ولم تؤمّن لهنّ ملاذاً آمناً.

تدمع عينا مريم وهي تحمل طفلها الرضيع وتحكي القصة التي مرّ عليها ما يقارب السنة، وتقول إنها تجرّأت وأخبرت قصتها كي تقف كل امرأة وفتاة بوجه الاغتصاب أو التحرش حتى لو كان الفاعل والدها أو أخاها أو أي شخص كان. فالسجن يجب أن يكون مصير هؤلاء.

مريم الآن بمأمن في أحد الملاجئ السكنية الذي أمّنته الجمعيّة لها ولأخواتها اللواتي لا يرغبن بالظهور أمام الناس، ولا يتحدّثن سوى مع أختهن الكبرى. إلّا أنّ الجمعيّة، بفضل أخصّائيّيها الاجتماعيين والنفسيين، تقدّم لهنّ الدعم النفسي والتأهيل المهني والتربوي لتخطّي مأساتهن. فمريم وأخواتها بدأنَ بتعلّم الخياطة وآثار الحياةُ الصعبة التي عانينَ منها بدأت تتلاشى بعد أن وجدنَ أنفسهن ينتجنَ ويعملن ويعشنَ حياة صحيّة جيدة. أمّا ابن مريم، فقد سعت الجمعيّة لتسجيله بشكل رسمي بعد أن تمّ تثبيت زواج مريم، وطلاقها أيضاً، في المحكمة قانونياً. ولكن، حين تنظر مريم إلى طفلها وقد أصبحت في الثامنة عشر، تتساءل ما هي الظروف التي سيواجهها ابنها بسبب كل ما جرى؟ وهل ستستطيع أن تؤمّن له حياة كريمة؟

تعمل العديد من الجمعيّات في لبنان على إنقاذ النساء والفتيات، اللاجئات والمقيمات، المعنّفات وضحايا الاغتصاب أو التحرّش أو السفاح. كما يتمّ توجيههن لمقابلة أخصّائيين نفسيين وعاملين اجتماعيين، لمساعدتهن على تخطّي أزماتهن، بالإضافة لمتابعة قضاياهن بشكل قانوني من تثبيت زواج أو طلاق، أو تثبيت تسجيل الأطفال بشكل رسمي في دوائر الدولة.

ومن هذه الجمعيّات:

جمعيّة "كفى" - هاتف 1745

جمعيّة "بسمة وزيتونة" -  هاتف: 76939238

جمعية "حماية" - هاتف: 03414964

"الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة" – هاتف / بيروت: 03829809 / طرابلس: 70518291