· 

يسمعون بأعينهم ويرون بأيديهم.. التعايش من منظورٍ آخر

تعبيرية
تعبيرية


في السابق، أثناء بث معظم البرامج التلفزيونية ونشرات الأخبار، كان يظهر في أسفل الشاشة مربع صغير في داخله شخص غير المذيع الرئيسي، يحرّك يديه ووجهه بطريقة كنّا نعتبرها غريبة ولا نفهمها. كنا نحاول تقليده والسؤال عن سبب وجوده، دون أن نعرف أنّ اللغات لا تقتصر فقط على الكلام، بل تتعدّاه أحياناً لأساليب مختلفة. فقدراتنا التي اعتدنا عليها دون أن نعرف أهميتها، لا تتوفر لدى الجميع من دون استثناء. لذا تضطر فئة معينة من الناس لإيجاد وسيلة تعوّض فقدانها لهذه القدرات. فمن لم يختبر تجربة التعامل مع الصم والبكم قد لا يدرك حساسية المسألة وصعوبة خلق طريقة مبتكرة للتواصل اللغوي والإنساني معهم. كيف بالحري إن واجهتهم ظروف صعبة إضافية اجتمعت لتزيد من تحدّياتهم اليومية؟

 

الحياة رأساً على عقب

لم يكن 2013 عاماً سهلاً على "رولا محمد" إبنة التسعة عشرة ربيعاً. كانت رولا تعيش مع عائلتها، في محافظة ريف دمشق، حياةً يومية بسيطة، لا تختلف في الظاهر عن حياة أقرانها عدا أنّ والدها وشقيقها هما من الصم والبكم، وهي لا تستطيع التواصل معهما بسهولة. لذا، كانت مهمة معرفة احتياجاتهما اليومية من اختصاص والدتها. إلى حين اضطرت العائلة إلى النزوح إلى لبنان بسبب تعرّض منطقة إقامتها لنيران الحرب التي لم ترحم أحداً. تركت رولا منزلها وزملاءها وجامعتها في السنة الثانية من دراستها، ووجدت نفسها في بيئة مختلفة.


استأجر والدها محلاً للخياطة مع شقيقها، وكانت والدتها تلازمهما طيلة اليوم لتؤمّن صلة الوصل بينهما وبين الزبائن. دخلت رولا الجامعة مجدّداً مستفيدةً من منحة دراسية، وبدت أوضاع العائلة مستقرّة لولا مرض السرطان الذي قرّر أن يفتك بوالدتها التي لم تشعر به إلا في مراحله الأخيرة، فأودى بحياتها بعد أقل من عام على النزوح.


"لم أفق من صدمة رحيل والدتي إلا بعد شهر. وكما نقول في العامية، "راحت السكرة وإجت الفكرة". رحيل والدتي من جهة، وعدم معرفتي كيفية التواصل مع أبي وأخي من جهة، وظروف الحياة والنزوح، وأوضاعنا المادية التي تزداد صعوبة من جهة أخرى ... شعرتّ أن حياتي قُلبت رأساً على عقب، ولولا مساعدة أشقائنا اللبنانيين في تكاليف الدفن والتعزية لما استطعنا تأمين المبلغ المطلوب. لذا، فكرت في ترك جامعتي حينها والتفرغ لمساعدة أسرتي، لكن سيدة لبنانية اسمها فاتن تسكن في الجوار قرّرت مساعدتي بمبلغٍ مادي لأتدبر أمورنا على أن أسدّد المبلغ حين أشاء. بالصدفة، وجدت على موقع "يوتيوب" مقاطع لتعلّم لغة الإشارة الخاصة بالصم والبكم"... وبدأت رولا مساراً حوّل حياتها في اتجاه جديد. 

 

الحاجة أُمّ الاكتشاف

الحاجة في حياة رولا كانت أساساً للاكتشاف وليس للاختراع، لأنها اكتشفت أنّ بإمكانها تعلّم لغة الإشارة بشكلٍ فردي. حتى أنها أصبحت ملمّة بها بدرجة عالية، فوجدت أخيراً لغة مشتركة مع أفراد عائلتها وسعت إلى تطوير معرفتها بهذه اللغة يوماً بعد يوم. أصبحت تتابع علمها في الجامعة صباحاً، وتجلس مع عائلتها في المحل بعد انتهاء الدوام لتحلّ محل والدتها في التنسيق مع الزبائن. خطرت على بالها فكرة تعليم بعض الزبائن الذين يتردّدون بشكلٍ دوري إلى المحل، بعض أساسيات لغة الإشارة ليتمكّنوا من التفاهم مع والدها وأخيها. وبالفعل، نجحت في هذه المهمة. أخبرتها جارتها فاتن عن "مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية البصرية"، فلجأت إليها لتتعلم لغة الإشارة بشكلٍ أكاديمي. لم يكتفِ القيّمون على المؤسسة بتعليم رولا، بل قدّموا المساعدة لعائلتها أيضاً، فيما أخذت رولا على عاتقها مهمة نشر لغة الإشارة. تخرّجت من الجامعة وبدأت تعمل بدوامٍ جزئي، وبقيت مواظبة على وجودها في محل أبيها، كما كانت تشارك مع المؤسسة في جميع الأنشطة الدورية، حتى باتت معروفة لمعظم المستفيدين.


وعن تحوّلها إلى داعمة لهذه الفئة من الأشخاص، تقول رولا: "طلبتُ من المؤسسة تكليفي بشكلٍ رسمي لتعليم جميع المستفيدين، وعائلاتهم، ومحيطهم، لغة الإشارة. كانت الأعداد تزداد عاماً بعد عام. ولم تقتصر مهمتي على التعليم، بل رحت أطالب مع مجموعة من الصم والبكم من 13 مدرسة لبنانية بتطبيق القانون 2000/220 الخاص بحقوق المعوّقين في لبنان والذي يضمن لهم 3% من وظائف القطاع العام، وذلك من خلال تجمّعنا في ساحة رياض الصلح في بيروت. كما طالبنا بالسماح لهم بالحصول على رخصة لقيادة السيارات، وبمترجمين في المحاكم والمدارس والمستشفيات بهدف تحسين عملية التواصل لأنهم يسمعون بأعينهم ويتكلمون بأيديهم! كما ساهمت مع جمعية "عيش الفرح" في طرابلس في مشروع تعليم لغة الإشارة للجميع والذي يهدف إلى تعليم الأشخاص من غير الصم والبكم لغة الإشارة ليسهل التواصل بين الفئتين. وقد أُنجز هذا الهدف عبر دورات تدريبية متعدّدة.

 

"الكورونا" قرّبت ولم تبعد

بقيت الأنشطة والمهام التي تبنّتها رولا مستمرّة، وعملت مع جارتها فاتن على تنظيم ورشة تدريبية في غرفة من منزلها، تمنح فئة الصم والبكم إمكانية التعبير عن مواهبهم بالرسم والكتابة والنحت وغيرها من الأساليب. كانت تؤمّن المواد بواسطة المؤسسة التي تعمل فيها والتي قرّرت أن تنظّم معرضاً لإنتاجات الصم والبكم الفنية. وقد ساهمت جهود رولا في التقريب بين اللبنانيين والسوريين لوجود أفراد في المؤسسة من المجتمعين. بخطوتها هذه، رغبت رولا أن تساهم في القضاء على كل أشكال العنصرية التي تعرّضت لها في الجامعة، معتبرةً أنّ الإنسانية هي القاسم الأهم. وكانت تفرح حين يستغرب البعض أنّ فتاة سورية هي "زعيمة المؤسسة" كما يلقّبها البعض. إلى أنّ حلّت جائحة كورونا و... توقفت جميع النشاطات. لكن رولا وجدت الحلّ الأمثل: "قرّرتُ ألا أسمح لجائحة كورونا أن توقف مشروعي. لذا، لجأت لتطبيق "زوم" فعقدت الاجتماعات عن طريقه. وبالفعل، جمعتُ، في كل مرّة، مجموعة مختلفة من فئة الصم والبكم، وكنت أتناول مواضيع مختلفة، كالتعايش السوري-اللبناني، والتآخي بين الأديان، وكيفية تطوير المهارات وتعزيزها. كما كنت أشاركهم روابط لأفلام وأعمال مترجمة إلى لغة الإشارة، وأحرص على أن يكون في المجموعة سوريين ولبنانيين. آمل أن تنتهي هذه الجائحة بشكلٍ نهائي حتى نعود لمتابعة مشاريعنا وأنشطتنا التي توقفت".

 

كانت تخطّط رولا لتسجيل مقاطع مصوّرة ونشرها عبر قناة خاصة على "يوتيوب" تعلّم من خلالها لغة الإشارة، أسوةً بالمقاطع التي استفادت منها في البداية. كما كانت ترغب بطرح مواضيع وقضايا آنية لتجعل فئة الصم والبكم قريبة من الواقع وتفاصيله المختلفة وتنظيم حملة ترويجية بمساعدة المؤسسة لحث الجميع على تعلّم لغة الإشارة، لأنها على قناعة بأنّ على الجميع معرفة أساسيات هذه اللغة حتى لو لم يكن في حياتهم أو دائرة معارفهم اليومية من يتواصلون معهم بواسطتها.


لمزيد من المعلومات عن تعلّم لغة الإشارة وسواها من المسائل المتعلقة بالصم والبكم، يمكن للجميع زيارة موقع وصفحات "مؤسسة الهادي للإعاقة السمعية البصرية" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتواصل مع القيّمين عليها عبر الرقم 03.890479 ، بالإضافة للإتصال بعدد من المؤسسات والجمعيات المهتمة بشؤون الصم والبكم في لبنان مثل:

دار الأيتام الإسلامية      

      01 654654/03 605645

مؤسسة الأب روبرتس     

      09 233 590

مؤسسة إيراب IRAP          

 04 925 025

مؤسسة الأب أندويخ 

FAID             05 920 735

الرابطة النسائية الإسلامية في طرابس 06/ 210 767

أصدقاء عند الحاجة 06/433636

-06/432255

مؤسسة بعبدا للضرير والأصم  

       05 921 024

... لأنّ اللغة تقرّبنا بعضنا من بعض وتعمّق التواصل في ما بيننا، كما يمكن لعدم إتقانها أن يباعد بيننا بالقدر نفسه، علماً أنّ مسألة التقارب والتباعد مرتبطة بطرق تفكيرنا كما بطريقة تعبيرنا. وغالباً، إشارة واحدة تكفي لأن يفهمنا الآخر دون الحاجة لأي كلمة، فما على اللبيب إلا أن يفهم من ... إشارة!

 

شارل عبد العزيز 

Write a comment

Comments: 0