· 

كم "أبو سارة" نحتاج في بلداننا؟

تعبيرية
تعبيرية

 

حروبٌ وصعابٌ وخلافاتٌ ومشاكل سياسية ومشاريع إثارة فتن وقتلٌ وتشريد ونزوح، عنواناتٌ عريضةٌ مؤلمةٌ لحالِ بلدين متجاورين منذ الأزل، سوريا ولبنان، اللذين كما يُقال دوماً عنهما "ربيوا سوا". فرغم الاختلافات بين البلدين من عدّة نواحٍ، إلّا أنّ الشعبين مرتبطان بشكل وثيق، بالأفراح والأتراح، بالحلول والمصائب أيضاً، وما قصة "أبو سارة" إلّا قصةً تجسّد واقع الحال السوري اللبناني.

"أبو سارة" هو رجلٌ لبناني، تجاوز العقد الخامس من العمر. لم يكن هذا الرجل يوماً إلّا سنداً لكثير من العائلات السورية التي بدأت بالنزوح نحو لبنان إثر اندلاع الحرب في سوريا. منذ ذلك الوقت، قطع "أبو سارة" عهداً على نفسه أن يمدّ يد العون لكل من يستطيع أن يساعده، لا لسببٍ معيّن، بل فقط لأنه يحب سوريا وله ذكريات وأصدقاء كثر في تلك البلاد، احتضنوه دوماً كفردٍ من أفراد عائلاتهم، ويكاد لا ينقضي شهران إلّا ويستقلّ سيارته ذاهباً نحو الشام. يقول: "قضيتُ أياماً رائعة في سوريا، بلدي الثاني، وأعرف أنّ لهذه البلاد فضلاً على الكثير من اللبنانيين رغم بعض الخلافات السياسية. فهي احتضنتهم في الحرب الأهلية وحرب تموز، ولم تغلق يوماً بابها بوجه أحد، فكان من الضروري أن أردّ ولو جزءاً من الجميل عن كل لبناني".

 

"أمِّنلي بيت"

 

"أبو سارة" شخصٌ مقتدر مادياً، يعمل في مجال بيع العقارات منذ زمن، وهذا ما جعله يشكّل ثروة لا بأس بها، وعلاقات واسعة جدّاً في الأوساط المجتمعية كافة. إنّ هذا أمر ضروري بالنسبة له، حسبما يقول، فالعلاقات مفيدة في تسيير الكثير من الأمور في هذه البلاد.

لقد جنّد هذا الرجل الكثير من أمواله وعلاقاته في مساعدة السوريين النازحين للتخفيف من وطأة معاناتهم. تقول لمى - إسم مستعار- وهي فتاة سورية جامعية إنّ والدها تعرّف على هذا الرجل عندما وصلت العائلة إلى لبنان وأثناء بحْثِ الأب عن منزل يأوي الأسرة النازحة. واجهته مشكلة الأسعار المرتفعة كثيراً والتي لا قدرة له على احتمالها. حاول جاهداً أن يجد منزلاً مناسباً في بيروت حتى كاد يعجز. إلتقى بالصدفة بـ"أبي سارة" فشرح له واقع حاله: إنه لم يستطع إيجاد بيت مناسب بسعر مقبول. فما كان من "أبي سارة" إلّا أن أجّره أحد البيوت التي يملكها في مدينة بيروت دون تقاضي أي مبلغ مالي منه. كان الاتفاق يقضي بأن تسكن العائلة المنزل دون دفع بدل إيجار مدّة سنة كاملة، أو إلى أن يجد أحد أفراد الأسرة عملاً يستطيع بفضله توفير المال اللازم. أصبح "أبو سارة" صديقاً للعائلة، بل وكأنه أحد أفراد الأسرة، يسهر في بيتهم ويقضون معه أوقاتاً جميلة بين الفينة والأخرى. 

حالة عائلة لمى شبيهة بوضع عائلة سورية أخرى جاءت من حمص هرباً من الحرب، وبحثاً عن حياة أخرى في لبنان. بلغت قصّة هذه العائلة مسامع "أبي سارة". أجّرها أحد المنازل التي يمتلكها وبنصف المبلغ الذي كان يطلبه عادةً. والشرط كما دائماً: لا دفع للإيجار إلى أن تتمكّن الأسرة من إعالة نفسها جيداً وتتأقلم مع الوضع المستجِدّ.

يقول "أبو سارة" إنه يحاول أن يحافظ على "وجه بلاده الجميل"، فالسوريون الهاربون من أهوال الحرب الدائرة في وطنهم كانوا يتخوّفون من المجيء إلى لبنان بسبب ما تردّد على مسامعهم أو ما طالعتهم به وسائل التواصل والإعلام من روايات عن ممارسات عنصرية تستهدف السوريين. ويتابع "أبو سارة": "لكنهم لم يجدوا سبيلاً لإنقاذ أرواحهم سوى اللجوء إلى هذه البلاد مضطرّين، فكان واجباً عليّ أن ألغي هذه الصورة." فهو يساعد الجميع بغضّ النظر عن دينهم أو طائفتهم، ويرفض التحدث عن العائلات السورية التي قدّم لها منازل بأسعار رخيصة أو بشكل شبه مجاني، إذ برأيه أنّ الحديث عن فعل الخير يفقده مصداقيته ويضيّع على صاحبه أجره عند الله.

 

"مطلوب عمّال"

 

علاقات "أبي سارة" ومعارفه هي بمثابة دائرة واسعة يشمل نطاقها العديد من الأوساط، ولا سيّما المؤسسات والجمعيّات التي قد تستخدم سوريين في عداد الموظفين لديها. بفضل هذه العلاقات، تمكّنت والدة لمى أن تحظى بعمل في جمعيّة تبيع الطعام بأسعار أرخص من أسعار السوق وتحتاج لسيدة ماهرة في الطبخ. أوصى "أبو سارة" بأمّ لمى خيراً عند إدارة الجمعيّة، وفعلاً، توظفت والدة لمى بعد أيام قليلة، و ها هو طعامها اللذيذ ينال استحسان كل من يتذوّقه.

وتتكرّر الحكاية مع شقيقين سوريين كانا يعملان بالأصل كلَحّامَين في مديبة حمص. كانا في الثلاثين من العمر تقريباً حين وصلا إلى لبنان، واستأجرا ملحمةً في بيروت بفضل مساعدة "أبي سارة" لهما. ولكن، كانا دائماً يتفاجآن بتغيُّر القوانين والأنظمة التي تضيّق أكثر فأكثر على السوريين إمكانية العمل، وتمنعهم من مزاولة أي عمل داخل لبنان، حتى لو كان من حُرّ مالهم. ذات يوم، داهمت القوى الأمنية ملحمة الأخويين، وعمدت إلى إقفال المكان بداعي عدم حيازة المستأجرَيْن على أوراق نظامية، علماً أنّ استصدار هذه الأوراق شبه مستحيل بحكم الشروط المجحفة المفروضة على طالبي هكذا وثائق. كان "أبو سارة" شاهداً على هذا الحدث، فواجه دورية التفتيش، وكما في المسلسلات الشاميّة، دقّ بيده على صدره، وقال: "هذه الملحمة مستأجرة بإسمي، وسأؤمِّن الأوراق النظامية"، طالباً من عناصر الدورية إمهال الشابين بعض الوقت.

وفعلاً، وفّر "أبو سارة" للشابين السوريَّين مجد وعامر الأوراق المطلوبة، فعاودا ممارسة عملهما. وبعد أن حُلّت المشكلة، قال "أبو سارة" للشابين: "الشاطر هلأ يقرّب عليكن".

يضحك مجد وعامر عند استذكار هذه الحادثة التي مرّ عليها قرابة الأربع سنوات، ويقولان إنّ "أبا سارة" "فضّل على راسهم"، وهو رجل شهم وكريم، لا يتردّد أبداً بتقديم المساعدة لمن يحتاج إليها. وهما ما زالا يمارسان مهنتهما بموجب عقد إيجار باسمه "لتكون كل الأمور ماشية بشكل قانوني".

 

"طمّنّي يا دكتور"

 

أصدقاء "أبي سارة" الأطباء والعاملين في المجال الإستشفائي كُثُر، لذا يسعى أيضاً لمساعدة السوريين، وحتى اللبنانيين المحتاجين للطبابة، بأن يوصي بهم لدى أصدقائه من الأطباء، فإمّا يدفع المريض للطبيب نصف المبلغ المترتِّب عليه، أو لا يدفع شيئاً إن كان محتاجاً. ورغم وجود المستوصفات التي تقدّم العلاج للجميع بسعر زهيد، إلّا أنّ كثيرين لا يستطيعون دفع كلفة صورة شعاعية أو رنين مغناطيسي أو علاج أسنان مثلاً، لذا يلجأون لـ"أبي سارة" لكي يدلّهم على طبيب يعالجهم بمبلغ بسيط أو ليغطي هو التكلفة كلّها.

من الحوادث التي رواها "أبو سارة" بعد الإصرارٍ عليه بشدّة، وهو الذي يمتنع عن البوح بأفعاله الخيّرة، أنّ سيدة سورية ذهبت لطبيب أسنان لتعالج أسنانها وطلبت منه أن يخفض قيمة المبلغ المتوجّب عليها إن أمكن، لكن الطبيب، وفي موقف مسيء، حين علم أنّ السيدة سورية "ومن طائفة أخرى غير طائفته"، رفض رفضاً باتاً أن يعالجها، وكاد أن يطردها من العيادة، فخرجت السيدة مكسورة الخاطر وحكت القصة، بالصدفة، لزوجة "أبي سارة". عندما علم بالخبر، إنتفض "أبو سارة" مزعوجاً، وذهب إلى الطبيب نفسه بحجّة أنه مريض، وحين دخل العيادة، وقبل أن يفحصه الطبيب، سأله "أبو سارة": "ما بدّك تسأل شو طائفتي قبل ما تفحصني؟"، ثمّ أنّبَه قائلاً إنّ الطبيب عليه أن يتحلّى بالأخلاق ويعالج الجميع دون أن يعرف جنسية مريضه أو دينه ، وأنّ ما فعله كان معيباً وبشعاً بحقّه.

طبعاً لم يكن "أبو سارة" يعاني من وجع في الأسنان، بل ذهب ليلقّن هذا الطبيب درساً في الأخلاق، وتكفّل هو بمعالجة السيدة عند طبيبٍ آخر من أصدقائه بمبلغٍ مقبول وبالتقسيط المريح.

يشبه "أبو سارة" ذاك الزعيم الذي دَرَجَ وجوده في حارات المسلسلات الشاميّة، يلجأ إليه الجميع ولا يردّ أحداً خائباً، بل يسعى، بكل ما أوتي من قدرة، أن يخدمهم ويكون عوناً لهم في ظلّ الظروف الصعبة التي تواجههم. 

ولأنّ الوضع في لبنان اليوم بات سيئاً كما الحال في سوريا، يشعر "أبو سارة" أنّ مسؤوليته أصبحت مضاعفة. فقد ازداد الحِمل عليه بما أنّ اللبنانيين أيضاً صاروا بحاجة لمساعدات تعينهم على تحمّل ظروف العيش القاسية. فها هو يحمل على عاتقه هموم مساعدةِ سوريين ولبنانيين وكأنه في منصب مسؤول، هو الذي لا يفكر أبداً في أن يتبوّأ أيّ منصب ولا يحب دهاليز السياسة التي يصفها بالوَسِخة، فيا ترى لِكَم "أبو سارة" نحن بحاجة في بلداننا؟

 

 

جوان ملا

Write a comment

Comments: 0