كيف نضع القطاع المصرفي اللبناني المنهار على المسار الصحيح 

تعبيرية
تعبيرية


بعد أن أُطلق عليه لقب "سويسرا الشرق الأوسط"، ها هو لبنان يغرق اليوم، بحسب مرصد الاقتصاد اللّبناني الصادر عن البنك الدولي. مع تطور الأزمة الاقتصادية الحالية وانخفاض تدفق التحويلات الأجنبيّة من المغتربين اللبنانيين، إلى جانب قلة المساعدات المالية من دول الخليج والغرب، أصبح تثبيت سعر صرف العملة الوطنيّة، الذي وُصِف لأكثر من عشرين عامًا بأنه دعامة للاستقرار المالي والاجتماعي، يشكّل عبئًا على البلد، فلقد فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 100٪ من قيمتها منذ أواخر العام 2019، بعد إندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان.

 

لقد ساهمت عوامل عدّة في انهيار القطاع المصرفي اللبناني، أبرزها: انعدام الثقة في هذا القطاع، بسبب عدم قدرته على إعادة أموال المودعين بعد أن أصبحت الدولة عمليًا متعثرة ومتخلّفة عن سداد ديونها الداخلية والخارجية، وقلة تدفق العملات الأجنبية، والانخفاض السريع لقيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي، وغياب الحلول أو الإجراءات، والعجز المالي، والتضخم المتصاعد، والانكماش الاقتصادي، والبطالة، والجمود السياسي، إلى جانب العديد من العوامل الأخرى ...

من أهم الإصلاحات التي يجب المباشرة بها لإعادة الاقتصاد اللبناني إلى المسار الصحيح هي إعادة هيكلة القطاع المصرفي المتعثر، التي تشكّل الركن الأساسي لضمان النمو على المدى الطويل وبناء نموذج اقتصادي منتج. ويكمن الغرض النهائي من هذه العملية في إعادة رسملة البنوك بالكامل، واستعادة ملاءتها وثقة المودعين. لذلك، يجب أن تسرع البنوك في تنفيذ إجراءات إعادة الهيكلة الّتي تضمن توزيعًا عادلاً للخسائر بين الوكلاء الاقتصاديين، وبناء خارطة عمل جديدة، والاستفادة من الفترة القادمة لإيجاد طريقة للخروج من الأزمة.

وعلى ضوء ذلك، وضعت الدراسة الخطوط العريضة لبرنامج إعادة الهيكلة الّذي يمكن أن يعيد الثقة في القطاع المصرفي ويضمن نموّاً إقتصاديّاً مستداماً في الفترة المقبلة. فبدلاً من تجميد ما تبقّى من إحتياط المصرف المركزي بعد رفع الدّعم، الّذي بدوره أصبح حاجة ملحّة للنّهوض بالقطاع المصرفي وإنقاذ القسم الأكبر من الودائع، سيكون من المفيد استخدام هذا الإحتياط على شكل استثمارات، في إطار خطّة مدروسة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. فقد حان الوقت للبنان أن يرفع تدريجيًا الدعم عن الخدمات الحكومية والمنتجات الأساسية ويعزز عملته الوطنية والقدرة الشرائية لمواطنيه من خلال التركيز على بناء اقتصاد مزدهر.

 

إن ذلك سيتطلب إعادة هيكلة كاملة وشلملة للقطاع المصرفي ومراجعة دقيقة  للإستراتيجيّات الإستثماريّة التّقليديّة من خلال التّركيز على ثلاثة محاور رئيسيّة: خفض التكلفة، وإدارة الدّيون وسائر المطلوبات، وتبنّي مصادر دخل جديدة ومعاصرة.

 

لجهة خفض التكاليف، يجب تقليص حجم البنوك إما عن طريق الاندماج مع المصارف الأخرى أو عن طريق مغادرة السوق. فإنّ عدد فروع المصارف في لبنان هو أعلى من المعايير الإقليمية والدولية ويجب بالتالي تخفيضه بنسبة 50٪ لتقليل النفقات غير المرغوب فيها. علاوة على ذلك، يجب على القطاع المصرفي أيضًا تقليل عدد الموظفين والمخصصات العائدة لهم، مع الحفاظ على معايير الكفاءة والبحث عنهم، كوسيلة فعالة لخفض تكاليف التوظيف وتعزيز إنتاجيّة العمل بشكل عام. أخيرًا، يمكن أن يؤدي التحوّل إلى الخدمات المصرفية الإلكترونية البديلة عن الفروع (كالخدمات والفروع الذّكيّة) إلى التنفيذ الأمثل لاستراتيجيات خفض الكلفة.

 

أما بالنسبة لإدارة الدّيون وسائر المطلوبات، يجب على المصرف المركزي أن يفرض "هيركت" على المصارف بنسبة 60 إلى70٪، من أجل خفض الأعباء لتصبح الأرقام والخسائر المتبقيّة أكثر منطقية. عندها سنكون قادرين على تقليص أو إزالة الفجوة بين مطلوبات المصرف المركزي واحتياطيات العملات الأجنبية المتبقية. فهذا الإجراء، رغم انعكاساته الإجتماعيّة الصّعبة، سيسّهل المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي، لأنّ تقليص الخسائر يُسرع في احتماليّة النّهوض الإقتصادي السّريع. بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن على المصارف في هذه الحالة التعويض على المودعين من خلال استخدام العائدات المكتسبة من أنشطتها الاستثمارية والمالية الجديدة. كما ويجب على الحكومة سداد التزاماتها من خلال استثماراتها في مجموعة من الأصول، مثل العقارات، الكهرباء، النفط والغاز إذا توفرا، إلخ. وفي هذا السّياق، تعرض الدّراسة المطروحة برنامجاً واضحاً ودقيقاً بالأرقام، يُمَكّن المصارف من حماية الودائع الصّغيرة وإمكانيّة تسديدها على مراحل، كما يشجّعها على متابعة الاستثمار في القطاع المصرفي للدّور الأساسي الذي يمكن أن يلعبه في مرحلة ما بعد الأزمة.

 

 لناحية توليد الدخل، يجب على القطاع المصرفي توفير مصدر جديد للدخل للتعويض على المودعين القدامى والنّهوض من جديد. لذلك يجب استثمار الزيادة المفروضة على رأس المال المصارف بالإضافة إلى المبلغ المتبقي من الاحتياطي  في العملات الأجنبية، في مشاريع مصرفيّة معاصرة ومربحة لإعادة تشكيل القطاع المصرفي، وذلك تلبيةً للمعايير الدولية وليس فقط لتغطية الخسائر. من هذا المنطلق، تطرح الدّراسة أفكاراً عديدة لهذه النّشطات المصرفيّة المعاصرة مع المردود المتوقّع تحقيقه من الإستثمار فيها، بالإضافة إلى دورها الأساسي في تحريك العجلة الإقتصاديّة والتّخلّص من التّطبيقات التّقليديّة غير المنتجة.

 

وبما أن توزيع المخاطر قاعدة أساسيّة لم تأخذها المصارف اللّبنانيّة سابقاً بعين الإعتبار، فإن وجود أقسام خدمات مصرفيّة متعدّدة كالمصارف التّجاريّة والمصارف الإستثماريّة أمر بالغ الأهمية لإنهاء الخلل، لأنه يساعد في تحييد المخاطر وتوليد دخل إضافي للتعويض على المودعين القدامى. ويشكّل ذلك الاستثمار في FinTech (شركات التكنولوجيا التي تقدم منتجات وخدمات مالية) أحد البدائل لإجبار القطاع المصرفي على تحسين نماذج أعماله واعتماد التكنولوجيا الرقمية الجديدة. لقد أثبت التحوّل نحو التداول الخوارزمي والذكاء الاصطناعي أنه يولد دخلًا أعلى من التداول اليدوي، إلى جانب تقليل عدد الموظفين والتكلفة الاجمالية.

 

ختامًا، يجب أن يتضمن أي نموذج عمل لأي قسم أو مجال جديد خطة عمل كاملة ودراسة للجدوى قبل وضعها قيد التنفيذ. هذا ويحتاج النظام المصرفي إلى وقت ليتعافى وسيواجه العديد من الخسائر في البداية. وحدها الحكومة التي تتمتّع بالعقلية الإصلاحية، والتي تباشر بخطة موثوقة لتحقيق الانتعاش المالي والاقتصادي، بالتعاون مع جميع الأفرقاء، قادرة على إنقاذ لبنان من المزيد من الغرق.

 

بحث:

-       د. دانيال خليفة فريحة

عميدة كلية إدارة الأعمال في جامعة الروح القدس - الكسليك

بريد إلكتروني: daniellekhalife@usek.edu.lb

-       جاد يمين

أستاذ محاضر في الهندسة المالية

بريد إلكتروني: jadyammine@usek.edu.lb

مساعد باحث:

تاتيانا البزي

طالبة ماجستير في الهندسة المالية

بريد إلكتروني: tatiana.e.elbazi@net.usek.edu.lb


هذا المقال هو مقتطف من دراسة بعنوان: "إعادة بناء القطاع المصرفي اللّبناني: رؤى رئيسية وخطة إعادة الهيكلة https://bit.ly/3ocfFPy من إعداد كليّة إدارة الأعمال في جامعة الروح القدس - الكسليك.

Write a comment

Comments: 0