· 

سنرجع.. أخبرني العندليب

أتوق إلى معصرة الزيتون وقهوة  أبو حازم ومخبز الايمان وحارتنا القديمة.. أكاد لا اعرف لها طريقا ولا إلى منزلي. هل سأعود إلى الحي الشرقي حيث نافورة الماء في ساحة الحي..

كنا نذهب انا ووالدتي وأختي لنملأ الجرار بالماء وكانت والدتي تحملني بين ذراعيها وكان عمري عام واحد فقط وكان ابي حينها مريضاً ولا يقبل أن يغادر المنزل. 

ذات مساء، استيقظت بين ذراعي امي في مدينة غزة وهي تمسح بيدها  على رأسي وتدندن.. سنرجع يوماً إلى حيِّنا .. 

سنرجع... 

انا ابن يافا .. ولدت ووطأت قدماي أول خطوة فوق أرض فلسطين الأبية ولأني أنا أول طفل في العائلة، حملت اسم جدي يوسف... 

كان اليهود ينزحون إلى فلسطين بكثافة منذ الثلاثينات وكنا نشعر بأن هناك تغييراً يحدث حولنا.. ولم نكن ندرك حجم المؤامرة التي نُصبت لنا. 

وفي العام ١٩٤٨، قصف الاحتلال يافا وأصابت قذائفه منزلنا وكان مؤلفًا من طبقتين.. واخترقت ثلاثة قذائف هاون السقف والممر.. بعدها قررت عائلتي ان نترك بيتنا فلم يعد أحد يقطن الحي، الجميع رحل وتحولت مدينتنا إلى مدينة أشباح وكأن مظلة نووية أطلقت غبارها في السماء وحجبت النور. 

قرر أهلي الانتقال الى جنوب يافا حيث تقطن عمتي في حي العجمي. رحلنا عن بيتنا، وسكنّا عند عمتي أسبوعاً كاملاً، لكننا ما لبثنا ان قررنا أن نترك العجمي لنفس السبب: فقد أصابت البيت قذائف الهاون مجدداً. ركبت كل عائلتي السيارة المتوجهة إلى غزة. جلس جارنا وزوجه وابنتاه في المقعد الامامي، وامتطى باقي الجيران سقف السيارة  وجلست امي وابي واختي واولاد عمي وعمتي وعائلتها في الخلف. الجميع قرر ترك المكان فالبقاء في هذه البقعة انتحار أو جنون.

وكانت السيارة ستنطلق لولا صرخة من قلب أمي: "أين يوسف"؟

دخل عمي للمنزل وبحث عني وكنت نائمًا على الأرض، فحملني بين ذراعيه وأوسدني بين ذراعي أمي وانطلقت بنا السيارة تحت قصف عشوائي... 

وصلت سيارتنا المغوارة الأبية إلى غزة بعد ان أُصيب هيكلها الخارجي برصاصات  لم تجد طريقها الينا.. وصلنا جميعنا سالمين ما عدا جارنا أبو محمود الذي كان قد سقط من على سقف السيارة برصاص الاحتلال ولم يستطع الصمود ولم نستطع أن نتوقف لالتقاطه.. قرأنا له الفاتحة ونحن نبكي وجعاً وقهراً.

سقطت يافا.. مسقط رأسي. 

انتظرنا وصول  ١٥ أيار وكان أخوتنا من  الجيوش العربية قد أعلنوا أنهم سيدخلون لتحريرنا ودعمنا.. ولكن لم يكن هناك أوامر بالتقدم لتحرير أي شبر.. تشرذم ثوار وإبعاد للمتعلمين وصمت دولي من مجلس الأمن والعدل والعدالة، فساد دولي ممهور بختم ومصادق عليه من دول نائمة دائمة العضوية، وأصبحنا لاجئين في فلسطيننا.. 

كم مرة تآمر عليك أخوتك يا يوسف منذ فجر التاريخ وليومنا هذا ؟ كم مرة حقدوا عليك وامتلؤا بك غيظًا؟ 

هل لانك أجملهم أم لأنهم الأبشع؟ 

هل لأنك الأرّق والأكثر براءة أم لأنهم لا يملكون ما تملك.. ولن يحصدوا ما زرعت.. 

لكننا سنرجع. 

هكذا دندنت أمي في أذني وأنا بين ذراعيها.. 

لم يعد هناك عندليب يصدح  فقد صمتت حنجرته في معاهدة صلح وقعتها معه دولة العدو فهي سمحت له بأن يطير فوق سمائها ووافق على مضض لانه يفضل حرية التنقل على حرية الكلام. 

بقي حراً طليق الحركة لكنه لم ينطق الا بلسانهم. 

منذ اربعة وسبعين عاماً.. وأمي تدندن  سنرجع.. وانا كلي ايمان باننا سنرجع.


أميرة سكر


" أحداث القصة مستوحاة من كتاب "صحافي من فلسطين يتذكر" 

"تحية لروح المناضل كنعان ابو خضرا"

Write a comment

Comments: 0